علاقة الألم الاجتماعي بالألم الجسدي
اختلف الحضارات و الثقافات و القصص و لكن لم يختلف الأدباء و الشعراء و الفنانين علي وصف تجارب فقد أو فشل العلاقات بالمؤلمة , حتي اللغة نفسها التي نستخدمها تدور حول نفس المعني مثل مشاعر مجروحة و قلب يتألم.و ذلك ليس في اللغة العربية فقط و لكن في جميع اللغات فمثلا في الإنجليزية : (broken heart ) مثلما نقول (broken bone).
الفهم العامبين المتخصصين في علوم النفس كان أننا مدفوعين تجاه تكوين روابط و علاقات إجتماعية ببقايا احتياجاتنا البيولوجية كانت تلبيها علاقات مثل احتياج المواليد للغذاء و الأمن و الدفئ من الأم و خصوصا الكائنات التي تحتاج إلي فترات رعاية طويلة بعد الولادة و بالتالي علاقات طويلة المدي بين المواليد و أمهاتهم لأنهن مصدر هذه الرعاية و أيضا نظام المعيشة في مجموعات لضمان الحماية و السيطرة علي الموارد و تسهيل عمليات الصيد حتي أصبحت هذه العلاقات لا تقل أهمية عن الأكل و الشرب و التنفس , بل هي مصدرهم في الأصل فكما أن غياب الطعام يسبب ألم الجوع و هو ألم عضوي و يسبب التوتر الذي يلفت الانتباه و يوجهك لتعالجه بالأكل فبالتالي تحافظ علي بقائك فأيضا غياب الأم و الشخص القائم علي الرعاية أو المجموعة التي تعيش ضمنها تسبب توتر و عدم راحة.
و لكن الملاحظ أنه حتي بعد التقدم في السن تدريجيا و قدرة الإنسان علي تحمل مسؤولية رعاية نفسه بنفسه يظل دائما يلازمنا شعور بالرغبة في التواصل و إقامة علاقات مع المحيطين و يسبب فقدهم أو نبذهم لنا توتر و عدم راحة و ألم , و لكن هل هو فعلا ألم أم نحن الذين نبالغ في وصف المشاعر السلبية ؟
لماذا نستخدم هذا التعبير تحديدا ؟
الألم الاجتماعي من الناحية العلمية :
عام 2005 طرح الزوجين الباحثين (Matthew Lieberman) و ( Naomi Eisenberger) في قسم علم النفس في جامعة كاليفورنيا مصطلح الألم الاجنماعي في نظريتهم المشتركة عن العلاقة بين الألم العضوي و الألم الاجتماعي (Overlap between physical and social pain) بعنوان : لماذا يؤلم الفراق (Why it hurts to be left out) ؟و قررا أنه لكي نعلم لماذا يصف الناس الرفض و الفشل في العلاقة بأنه يؤلم يجب أن نخلق موقف شبيه نضع الناس به و نبدأ في دراستهم.
هذا الموقف الشبيه كان عبارة عن لعبة.... حيث سنخبر الأشخاص الخاضعين للتجربة بأنهم سيلعبون لعبة علي الكمبيوتر مع شخصين آخرين يجلسان أيضا خلف شاشات أجهزة الكمبيوتر خاصتهم..... اللعبة بسيطة : سترمون الكرة لبعضكم البعض و تلتقطوها جميعا.
لكن في الحقيقة لا يوجد شخصان يلعبان معه بل هي مجرد لعبة مبرمجة أنه بعد قليل سيكف هذان الشخصين الخياليين عن رمي الكرة للشخص القائمة عليه التجربة و يمر الوقت و يتضح ان هذان الشخصان و كأنهما لا يريدان مشاركته في اللعب معهما.
و خلال ذلك الوقت كان دماغ الشخص موصلا بنوع من أجهزة الأشعة لكي نفحصه و نحدد المناطق التي ستنشط فيه أثناء الشعور بالرفض أو النبذ الذي سيشعر به و كانت النتيجة أن في أدمغة هؤلاء الأشخاص نفس المناطق التي يعتقد أنها تتعامل مع الألم العضوي المادي و هذا بمجرد موقف سطحي تماما فمجرد لعبها شخص مع أشخاص لا يعلمهم ولا يعنون له أي شيء.
الشعور بالإقصاء أو التهميش الاجتماعي , الشعور بالرفض و النبذ , الفشل في تحقيق علاقات اجتماعية مرضية و مستقرة , كل هذا بالفعل مؤلم حرفيا.
القائمين علي الدراسة يقولون أن الجسد استعار المنطقة الخاصة بالتعامل مع الألم الجسدي لإستخدامها في التعامل مع الألم الاجتماعي أيضا , كما أن الألم الجسدي يمكن أن يكون منبه لمشكلة أو تلف خطير يحدث داخل الجسد فتلجأ للمساعدة أو تطلب العلاج فكذلك الألم الاجتماعي يمكنه أن يوجهك لتصحيح علاقاتك و الحفاظ عليها لتجنب مخاطر الوحدة أو العزلة عن المحيطين بك.
نحن لا نتحدث عن مخاطر بمعني مجرد شعور سيء سيذهب من تلقاء نفسه مع الوقت و سيتم نسيانه و يذهب بدون ترك أي أثر , بل نتحدث عن مخاطر حقيقية تهدد جودة حياتك و بقائك.
حسب دراسات و مراجعات متفرقة علي مرضي أنواع مختلفة من السرطانات و أمراض مختلفة من الإلتهابات كان دائما ما يظهر المرضي الغير محيطين بدعم كافي من أهلهم و مجتمعهم في حالات أسوأ من حيث أعراض الإلتهابات و الألم المزمن و حالات الاكتئاب المصاحبة لفترات العلاج الطويلة و ما بعدها مقارنة بغيرهم من المرضي المحاطين بعلاقات اجتماعية ناجحة و داعمة.
في مراجعات شملت الآف السيدات من أكثر من 17 دولة مختلفة يمرون كلهم بعمليات الولادة المؤلمة , كانت تؤكد النتائج أن السيدات اللاتي كان بجانبهن مرافق أثناء الولادة كن الأكثر احتمالا أن يلدن ولادة طبيعية و شكوتهن من الألم تصبح أقل و استخدام المسكنات خلال عملية الولادة كانت أقل بل و أيضا فترة الولادة كات اقصر و أسهل و مشاعرهم السلبية تجاه التجربة ككل كانت أقل بكثير من غيرهم من السيدات اللاتي لم يكن معهن مرافق.
و يبدو أن أجسامنا لم تستعر فقط الإحساس بالألم الجسدي للتعامل مع الألم الإجتماعي بل أيضا تسكين الألم الجسدي لتسكين الألم الإجتماعي.
نظام شبيهات الأفيون الداخلية (Endogenous opioid system) , حسب دراسات قام بها الزوجين أن المواد التي تشبه الأفيون الموجودة داخل أجسادنا بشكل طبيعي أكتشفا أنه ليس فقط ترتفع مستوياتها في حالات الألم الجسدي و إنما أيضا في حالات النبذ المجتمعي و الارتباك في العلاقات للحماية من الشعور بالألم الاجتماعي السلبي الخطر جدا , و بما أن المسكنات الداخلية التي يدافع بها الجسد عن نفسه مشتركة بين الحالتين ـ حالة الألم الجسدي و حالة الألم الاجتماعي ـ فكان من المنطقي أن يفكر المتخصصين : هل يمكن أن يكون للمسكنات الخارجية نفس التأثير بمعني أنه عندما تجرح مشاعرك يمكنك أخذ قرص مسكن.
قسم علم النفس بجامعة كنتاكي أصدر دراسته عام 2010 جاء فيها أنه نعم يمكن ذلك حيث أن الباراسيتامول (paracetampol) المسكن الشهير جدا في تجربة مدتها حوالي 3 أسابيع أثبت فاعليته في تقليل نشاط منطقة المخ المميزة و استطاع تقليل ردود الأفعال السلوكية تجاه تجارب الرفض الإجتماعي المسبب لألم إجتماعي.
و لكن للعلم : الأفيون الخارجي المستخلص من نبات و المواد المصنعة منه مثل المورفين و الهروين و المعروف عنها تأثيرها القوي جدا في تسكين الألم الجسدي و لم يكن لها نفس التأثير علي الألم الاجتماعي أو دعم العلاقات الاجتماعية السوية و هذا نسبة إلي تجارب علي الرئيسيات , حيث ان حقن الحيوانات بمادة المورفين من الخارج كان يجعل من ميولهم إلي التقارب الاجتماعي أقل بكثير من غيرهم و ذلك لأن تعاطي المورفين الخارجي ينافس العلاقات الاجتماعية السوية داخل أدمغتنا.
و وجد الزوجين أن التداخل بين الألم الجسدي و الاجتماعي لم يكن فقط علي المستوي الوظيفي و إنما وجدنا أيضا تداخل علي المستوي الجيني فالأشخاص الذين يمتلكون شكل معين من جين معين مثل (G allele of OPRM1) لا يعانون فقط من حساسية عالية تجاه الألم الجسدي بل أثبت أنهم يعانون من حساسية أعلي من غيرهم تجاه الرفض المجتمعي و نشاط أعلي من غيرهم في مناطق الدماغ المسؤولة عن الألم في الحالات المعروفة مثل إقصائهم اجتماعيا أو حرمانهم من مجتمعات محيطة طبيعية.
و توالت التجارب في نفس المجال و الأسئلة و المحاولات في إيجاد إيجابات و أدلة و واجهت النظرية نفسها عدة إنتقادات منذ لحظة نشرها و حتي يومنا هذا و استمر الزوجين في الرد عليها و نشر المزيد من الأدلة حتي آخر أوراقهم عام 2015.
في النهاية : علميا نحن لا نحتاج بعضنا البعض لمجرد أن هذا أكثر امانا لجماعتنا و أسهل في الحصول علي الموارد و أصلح للبقاء بل أيضا نحن نحتاج بعضنا البعض ضمانا لإستقرارنا النفسي و جودة صحتنا و مقاومة الآلام .
تعليقات
إرسال تعليق